أحكام صلاة الاستسقاء .
إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﷺ، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ ، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ ، ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ ، أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدي هدي محمد ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار، أما بعدُ: فقد جُبلتِ النفوسُ على طلب الغوثِ من الله وحده عند الشدائد والمحن، وإن من تلك الشدائدِ انحباسَ القَطْرِ وجَدبَ الأرض، المؤذنان بالجوع والعطش والهلاك، فيلتجئُ العبادُ حينئذ إلى خالقهم ليرفع عنهم ما هم فيه، ويكون ذلك بعدة أمور: منها ملازمة الإيمان والتقوى والإنابة، كما قال سبحانه: ﴿ولو أن أهل القرى ءامنوا واتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء والأرض﴾، ومنها كثرة الاستغفار، قال نوح ـ عليه السلام ـ لقومه: ﴿ استغفروا ربكم إنه كان غفارا يرسل السماء عليكم مدرارا ﴾ ، ومنها الدعاء على المنابر وفي الصلوات وفي غير ذلك ، جاءت بجميع ذلك الأحاديث والآثار، ومن أعظمِ ما يُطلَبُ به نزول الغيث الاستسقاءُ، وهو طلبُ السُقيا من الله بصفة مخصوصة، وقد وقع الاستسقاءُ من صَدْرِ هذه الأمة كما صحت بذلك الآثار ، وكان الاستسقاء أيضا معروفا لدى الأمم السابقة، قال جل وعلا ﴿وإذ استسقى موسى لقومه ﴾، بل جاءت الآثارُ بأنَّ البهائم العجماء تستسقي، فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال : ﴿خرج سليمان عليه السلام يستسقي ، فرأى نملة مستلقية على ظهرها، رافعة قوائمها إلى السماء تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ليس بنا غنى عن سقياك ، فقال : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم ) رواه الدارقطني (188) ، والحاكم (1/ 325 – 326)، وقال الحاكم: صحيح الإسناد، وضعفه ابن حجر والألباني.
1. تعريف الاستسقاء:
قال القاضي أبو بكر ابن العربي المالكي ؒ : “الاستسقاء هو طلبُ السَّقْي [المسالك شرح موطأ مالك 3/302].
وقال القرطبي المالكي المفسر ؒ : “والسينُ سينُ السؤال، مثل استعلم، واستخبر، واستنصر، ونحو ذلك، أي: طلبَ وسألَ السقي” [ الجامع 2/135].
وقال القاضي عياض المالكي ؒ : “أي: طلَبَ من الله السقي بدعائه أو بتضرعه وصلاته” [ إكمال المعلم شرح صحيح مسلم 2/314].
2. حكم صلاة الاستسقاء:
صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة، قال القاضي عياض ؒ : ” لا خلاف في جواز الاستسقاء وأنه سُنَّة” [ إكمال المعلم 3/312].
قال الحافظ ابن عبد البر المالكي ؒ : ” وآكد السُنن ما صلاه رسول الله ﷺ في جماعة، وذلك العيدان والاستسقاء…” [ الكافي 1/255].
وقال ابن بطال المالكي ؒ : ” الخروجُ إلى الاستسقاء والاجتماعُ والبروز لا يكون إلا بإذن الإمام، لما في الخروج والاجتماع من الآفات الداخلة على السلطان … وأما الدعاء في أعقاب الصلوات في الاستسقاء فجائز بغير إذن الإمام” [شرح صحيح البخاري 3/8] وقال: “على الإمامِ إذا سُئل الخروج إلى الاستسقاء أن يُطيب إلى ذلك، لما فيه من الضراعة إلى الله في صلاح أحوال عباده” [المصدر السابق 3/14].
3. سببها:
قال الحافظ ابن عبد البر ؒ : “وصلاة الاستسقاء سنة مسنونة إذا احتبس الغيث في زمانه، أو تأخر نزول ماء السماء في أوانه، وخشي الناس فوات وقت زراعتهم، أو قحطت زروعها فخافوا هلاكها” [الكافي 1/268].
4. مكانها:
مكان صلاة الاستسقاء هو مكان صلاة العيد، أي خارج العمران، وجازت في المساجد، قال القاضي عياض ؒ : “وفي الأحاديث دليل على بروز الإمام والناس لها في الصحراء، وذلك لقوله: خرج إلى المصلى” [إكمال المعلم 3/312].
فإذا صُليت في المصلى فلا تُسن التحيةُ له ولا النفلُ لها، قال ابن عبد البر ؒ : “لا بأس أن يركع ، وليس ذلك عليه، ومن لم يركع فلا حرج” [الكافي 1/269].
5. زمانها:
زمنُ صلاة الاستسقاء هو زمن صلاة العيد، أي: من ارتفاع الشمس قيد رمح، حتى الزوال، قال ابن عبد البر ؒ : “يبرزون ضحوة في ثياب تواضع إلى حيث تصلى العيد” [الكافي 1/268].
6. صفتها:
أ. صفة الصلاة:
قال ابن عبد البر ؒ : “يصلي بهم إمامهم ركعتين … يجهر فيهما بالقراءة، ولا بد مم فاتحة الكتاب في كلتا الركعتين، ويقرأ بعدها ما شاء من سور المفصل، ولا يطوّل، ويستحب له أن تكون قراءته بنحو سبح اسم ربك الأعلى، ووالشمس وضحاها، واقرأ باسم ربك” [الكافي 1/268]، قال ابن أبي زيد القيرواني المالكي ؒ : “ويتشهد ويسلّم، ثم يستقبل الناس بوجهه، فيجلس جلسة، فإذا اطمأن الناسُ قام متوكئا على قوس أو عصا فخطب” [الرسالة 39].
ب. صفة الخطبة:
قال ابن عبد البر ؒ : “فإذا فرغ من الصلاة خطب خطبتين، يفصل بينهما بجلسة، كما يفعل في الجمعة، ويخطب على عصا، فإذا فرغ منها أو أشرف على الفراغ أعلمهم أنه محوّلٌ رداءه تأسيا برسول الله ﷺ في ذلك، ورجاء تحويل حالهم إلى ما يرجونه، وأمرَهم بتحويل أرديتهم، فيحولونها وهم قعود، فيجعلون ما على اليمين منها على اليسار … ويحول هو رداءه كذلك أيضا وهو قائم مستقبل القبلة، ويدعو ويكثر من الاستغفار قائما وهم جلوس، يدعو وهم يؤمّنون على دعائه” [الكافي 1/268].
7. سنن الاستسقاء:
أ. التهيؤ بالظاهر، بأن يخرج المرؤ إلى الاستسقاء متبذلا ، قال القاضي ابن العربي ؒ : ” متبذّلا … لم يُجدد كسوةً، ولا استأنف لبسه، كما يفعل في العيد … والحكمة فيه أن الرجل يخرج في العيد بهيئته وقد قَدَّم عمله ليَفِد به على مولاه، فيتحمل تحمل الوافد، والمستسقي على أنه معتوب، فيخرج خروج الذليل” [عارضة الأحوذي 3/32].
ب. التهيؤ بالباطن، قال ابن عبد البر ؒ : “ويجتهد في الدعاء هو ومن معه، بإخلاصٍ ونيةٍ بعد ندم، وتوبة، وإقلاع عن المعاصي، وخروج من المظالم، فإنه أحرى أن يُستجاب لهم” [الكافي 1/269].
8. دعاء الاستسقاء:
يجوز للإمام أن يدعو بكل ما يفيد طلب السُقيا، قال الحافظ ابن عبد البر ؒ : “وحسنٌ أن يكون من دعائه: اللهم إنا نشكوا ما نزَل بنا من الجَهد والبلاء، اللهم اسقنا من بركات السماء، ما تُثبت لنا به الزرع، وتدر به الضرع، وتدفع به عنا الجَهد، ولا تجعلنا من القانطين، اللهم اسقنا غيثا مغيثا مريئا مريعا غدقا عامّا طبقا دائما نافعا، يا أرحم الراحمين” [الكافي 1/269].
9. من أحكام صلاة الاستسقاء:
١. التكبير في صلاتها كسائر الصلوات، لا كصلاة العيد، أي: لا يكبر فيها إلا للإحرام والرفع والخفض [يُنظر الكافي لابن عبد البر 1/268، الرسالة لابن أبي زيد 39]، قال القاضي ابن العربي ؒ عن التكبير فيها كالعيد: “أمرٌ تفرد به بعض الرواة عن ابن عباس بضعف طريقه” [عارضة الأحوذي 3/34].
٢. لا بأس في الاستسقاء بشهود النساء، والصبيان، وأهل الكتاب [ينظر الكافي لابن عبد البر 1/269].
٣. إن لم يُسْقَ الناسُ فجائز لهم الخروج مرة بعد مرة في عام واحد [ينظر الكافي لابن عبد البر 1/269].
٤. لا أذان لصلاة الاستسقاء ولا إقامة [ ينظر الرسالة لابن أبي زيد القيرواني 39].
٥. قال ابن بطال ؒ : “وفي المدونة أنه لا يخرج إليها بمنبر، وقال أشهب في المجموعة: واسعٌ أن يخرج إليها بالمنبر أو لا يخرج” [شرح صحيح البخاري 3/20]، قال القاضي ابن العربي ؒ : “حديث أبي داود في الخروج بالمنبر ضعيف، فلم يكن للنبي ﷺ منبر” [عارضة الأحوذي 3/34].
٦. تحويل الرداء سُنة قال بها الجمهور، والمراد به رد ما تراخى على اليمين على الشمال، والعكس، وليس المراد به تنكيس الثوب وقلب أعلاه أسفله [يُنظر إكمال المعلم للقاضي عياض 3/314].
٧. قال القاضي عياض ؒ : “الخطبة كلها ليست بدعاء، وإنما هي ـ أولا ـ ثناء على الله، وتذكير للناس، ووعظٌ لهم، وتخويف، فإذا أراد أن يدعو استقبل القبلة ودعا، وحوّل رداءه كما جاء في الحديث” [إكمال المعلم 3/315].
٨. الصلاة سابقة للخطبتين وتحويلِ الرداء [ينظر شرح صحيح البخاري لابن بطال 3/19].
٩. قال ابن بطال ؒ : ” قال ابن حبيب: كان مالك يرى رفع اليدين في الاستسقاء للناس والإمام، وبطونهما إلى الأرض” [شرح صحيح البخاري 3/21].
والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على عبده ورسوله، وعلى آله وصحبه أجمعين.
اللجنة العلمية بالهيئة….