المسألة الثانية: علَّلتِ الدارُ تجويزَها طلبَ المددِ من الموتى -كما جاز طلبُه من الأحياء اتفاقاً- بقولها: “لأنه محمول على السببية لا على التأثير”.

أي: وإنما استوى طلبُ المدد من الميت ومن الحيِّ؛ لأنَّه ليس لكليهما تأثيرٌ فيما أُسنِدَ إليهما، بل العادةُ والسببيةُ المجردةُ والاقترانُ فحسب، لأنَّه لا يؤثِّرُ حقيقةً إلا الله.

والردُّ على هذا التعليل من وجهين:

الأول: لو سُلِّمَ للدارِ جدلاً أنَّ هذه الأفعالَ وغيرَها أسبابٌ مُجردةٌ لا أثر لها في الحقيقة، فلا يُسلَّمُ لها أنَّها أسبابٌ مشروعة، بل الأسبابُ -في هذا البابِ بابِ التوسُّل- ضروبٌ: منها المشروعُ: كالتوسل بأسماء الله وصفاته، وبالعمل الصالح، والتماس الدعاء من الصالح .

ومنها غيرُ المشروع: وهو إما بدعةٌ: كالتوسل بالذوات والجاهات المخلوقة، وإما شِركٌ: وهو اتخاذُ العبدِ وسائطَ بينه وبين الله، يدعوهم، ويسألهم ما خصَّ الله به نفسَه، كما قال مشركو قريش في أصنامهم: {ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى} [الزمر – 3].

بل الأنبياءُ والصالحون الذين تجعلُهم هذه الدارُ وأمثالُها سبباً ووسيلةً يُطلَبُ منها المدد، هم أنفُسُهم يطلبونه من الله وحدَه، قال سبحانه: {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبّهمْ الْوَسِيلَة أَيّهمْ أَقْرَب وَيَرْجُونَ رَحْمَته وَيَخَافُونَ عَذَابه إِنَّ عَذَاب رَبّك كَانَ مَحْذُورًا} [الإسراء – 57].

الثاني: هذا التعليلُ الذي ذكرتِ الدارُ، وسوَّغتْ به جوازَ دُعاء غير الله، عقيدةٌ أشعريةٌ خبيثة، تُسمَّى العادة، وهي متولِّدةٌ عن قولهم في القدَرِ بالجَبرِ الباطن، والذي يُسمونه بالكسب، ثم هي عندهم من مباحث الوحدانية والقُدرة، وحاصلُها: أن الأسبابَ لا تؤثرُ في الأشياء ولا تُنتجُ مسبباتِها، وأنه لا تلازم بين السبب والمُسبَّب، وإنما هي العادةُ والاقترانُ المُوهِمُ للتأثير، فالسكينُ لا يقطعُ، بل وقع القطعُ عند إعمال السكين، والنارُ لا تُحرِقُ الخشب، وإنما صادفَ احتراقُ الخشب وجودَ النار عنده … يقول الدردير في الخريدة:

والفِعلِ فالتأثيرُ ليسَ إلاَّ

للواحِدِ القَهَار جلَّ وعَلا

ومن يَقُل بالطَّبعِ أو بالعلَّةْ

فذاكَ كُفرٌ عند أهلِ المِلَّةْ

ومَن يَقُل بِالقُوَّةِ المُودَعَةِ

فَذَاكَ بِدْعِيٌّ فلا تَلتَفِتِ

قال الشارحُ -وهو ذاتُ الماتن-: “فليس ثَمَّ مَن له فعلٌ من الأفعال سِوَاهُ تعالَى؛ إذ كُلُّ ما سِوَاهُ عاجزٌ لا تأثيرَ له في شيءٍ من الأشياء … فلا تأثيرَ للنار في الإحراقِ، ولا للطَّعامِ في الشَّبَعِ ولا للماء في الرّيِّ … ولا لشيءٍ في دفع حَرٍّ أو بردٍ أو جلبِهِمَا وغيرِ ذلك، لا بالطَّبعِ، ولا بالعلَّةِ، ولا بقُوَّةٍ أودَعَهَا اللهُ فِيها، بل التأثيرُ في ذلك كُلُّهُ لله تعالى وحدَهُ بمحضِ اختيارِهِ عند وُجُودِ هذه الأشيَاءِ”.

[الخريدة البهية وشرحها 59 – 63 ].

بنَتِ الدارُ على هذا أنه ما دام لا فرْقَ بين الميت والحيِّ في كونهما سبباً لا أثر له فلا وجهَ للتفريق بينهما في حكم الاستعانةِ، بل صرَّح د. يُسري جبر – وهو من طِينتهم – أنَّ المُفرِّقَ بينهما مُعتقداً أنَّ المستَعَانَ به الحيَّ سببٌ مؤثِّرٌ فهو مُشرك [فيديو على اليوتيوب].

قال ابن تيمية -في نقض هذه العقيدة الخبيثة-: “من قال إن قدرة العبد وغيرها من الأسباب التي خلق الله بها المخلوقاتِ ليست أسبابا، أو أن وجودها كعدمها، وليس هناك إلا مجرد اقتران عادي، كاقتران الدليل بالمدلول، فقد جحد ما في خلق الله وشرعه من الأسباب والحكم والعلل” [مجموع الفتاوى – 8/136].

Leave a Comment